البحث في هذه المدونة

السبت، 2 نوفمبر 2013

يرحلون حاملين احلامهم ! والحياة تواصل سيرها على ضوء قناديل مخادعة لانتصارات وقحة !.. بلد فشل في أن يتحول إلى وطن !

بقلم : الدكتور ياسين سعيد نعمان

إلى الشهيد إسماعيل الكبسي مع التحية*

عرفته في طابور الانتظار أمام مكتب الطلبة الوافدين في القاهرة صيف 1967، حيث كان يتدفق بحماس وبصورة ملفتة للانتباه مناقشاً حول النكسة والهزيمة العسكرية.
لم يكن قد مر على النكسة سوى شهر ونصف تقريباً عندما تعرفت عليه، قبل أن تجمعنا بعد ذلك بشهرين خلية حزبية واحدة لحركة القوميين العرب، كان قد سبقني إليها أثناء تواجدي في "حلوان".
كانت الصداقات أكبر من الانتماءات الصغيرة، لهذا فرغم أن صداقة طويلة جمعتني به إلا أني لم أعرف أنه من "خولان" إلا في فترة لاحقة، بعد سنوات من العشرة.
كان إسماعيل نسيج ظروف صعبة ومعقدة، وبدأ يشق حياته في زحام المدينة نحو مدرسة الأيتام، ومنها إلى الحياة السياسية.
من الحياة السياسية أطل على أفق أوسع مساحة من القبو الذي كان يعيش فيه في إحدى حارات صنعاء القديمة مع ثلاثة من زملائه.
انتخبنا معاً لقيادة رابطة الطلبة اليمنيين، وكان شمال اليمن يغلي بأحداث أغسطس 68 ومقتل القائد عبد الرقيب عبد الوهاب، كان إسماعيل في ذروة نشاطه السياسي والطلابي يعبئ ويحاور حتى اقتنعنا بأن أقل تعبير يمكن أن يمارسه الطلبة يومذاك هو احتلال سفارة الشمال في القاهرة.
كان احتلال السفارة خطوة جريئة ومعبرة شارك فيها كل الطلبة بمختلف انتماءاتهم السياسية، انتهت بقطع منحنا الدراسية لمدة سنة  عندما قابلناه في فندق "شبرد"، أثناء مروره بالقاهرة ثاني يوم الحادث، وجه لنا وزير الخارجية كلاماً قاسياً ضمنه التعامل مع قوى خارجية.
لم يحتمل إسماعيل حديث الوزير فقال له: آخر من يتحدث عن التعامل مع قوى خارجية هو نظامكم الذي صادر الثورة وسلمها لأعدائها.
بعد أيام، عبر إسماعيل عن هذا الموقف في محاضرة في كلية الحقوق، ومنها بدأت الأجواء تتلبد بالغيوم حوله، وتعرض لمضايقات كثيرة، وتسلم تهديدات وإنذارات لا حصر لها
وهو في السنة الرابعة في كلية الحقوق، اضطر أن يسافر لزيارة أمه التي كانت على سرير الموت في "خولان"، حيث تسلل إلى هناك وقضى معها أياماً  عندما قرر العودة إلى مصر لمواصلة دراسته الجامعية كانت الوشاية قد سبقته فمنع من دخول القاهرة وأعيد على نفس الطائرة إلى عدن  كان يتذكر كيف أن أمه أرسلت له، في بداية أيامه في القاهرة، سبعة ريالات (ماريا تريزا)، ظل محتفظا بها حتى اقتضى الأمر مساعدة صديق لنا مر بمحنة شديدة فجاء بريالاته السبعة ورماها على الطاولة وهو يقول: هذه مساهمتي  كان مشروعاً ثقافياً وسياسياً، وطاله أحد تلك الألغام الهمجية لتنتهي حياته في إحدى سنوات السبعينيات المبكرة.
الانتماءات المناطقية والطائفية تجرف اليوم اليمن إلى مستنقعات التفكك، ويجري استدعاؤها من داخل تاريخ مراوغ ومغالط لحقيقة بلد كل مشكلته أنه لم تترك له فرصة أن يتحول إلى وطن.
في رابطتهم بالقاهرة كانت تصل إلى الشارع أصوات الطلبة اليمنيين وهم يناقشون كل شيء، بدءاً بقومية المعركة التي تجسدت كشعار منذ ما بعد النكسة، مروراً بانقلاب 5 نوفمبر 67 في الشمال، وانتهاءً باستقلال الجنوب في 30 نوفمبر.
رغم أن حرب الاستنزاف ظلت تقدم الدليل على أن المشروع المهزوم لم يكن سهل الابتلاع، إلا أن رحيل عبد الناصر وضع خطاً فاصلاً لنهاية مشروع مقاوم، وآخر يلهث وراء التسوية.
في طابور الانتظار أمام مكتب الطلبة الوافدين في القاهرة، صيف 1967، كان الصمت يخيم على المكان إلا من صوت كان يتدفق بحماس وبصورة ملفتة للانتباه. تبينت على وجه السرعة أن صاحب الصوت يمني، وسط التواجد الكثيف للطلبة العرب والأجانب من أفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند وإندونيسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي الآسيوية.
كان صوت صاحبنا يخترق الصمت، كما لو أنه قادم من خارج المكان والزمان، على الرغم من أن الحديث، الذي أخذ يتداوله مع زميله ذي الملامح الأفريقية، كان يدور حول النكسة والهزيمة العسكرية.
لم يكن قد مر على نكسة حزيران 67 سوى شهر ونصف تقريباً، عندما بدأت الحياة تعود إلى مجراها، وكان التسجيل في الجامعات مؤشراً على ذلك التطبيع. الوجوم الذي ظل يخيم على الطابور كان يخفي احتقانا هائلا في نفوس الشباب، الذين تجمعوا من كثير من بقاع العالم في مدارس مصر، لكن لا أحد من هؤلاء كان في مزاج يسمح له بالحديث عما يعتمل في نفسه من مرارة وانكسار، لا لأن المخابرات كانت تكتم أنفاسهم، فقد هان أمرها بعد النكسة؛ ولكن لأن الجميع كان لا يريد أن يصدق أن هزيمة ثقيلة قد حلت بهذا البلد، الذي فتح ذراعيه للجميع ومثل قدوة لكفاح الشعوب من أجل الحرية والبناء والتقدم.
كانت النكسة قد أطاحت بالأصوات العالية فجعلت الحديث همساً. ولذلك فقد كان الصوت العالي يدير الرؤوس بضجر لا يصعب ملاحظته على وجوه المستمعين. لكن أخانا اليمني، الذي لم أكن قد تعرفت عليه، واصل حديثه بصوت عالٍ لتصل إلى مسامعنا شبه جمل متقطعة تدور حول الخيانة التي تعرض لها عبد الناصر، ودور الرئيس الأمريكي جونسون في الهزيمة، ومقارنة بالموقف الأمريكي تجاه عدوان 56 على بور سعيد بعد تأميم قناة السويس، وكلام عن المخابرات التي انشغلت بقمع الحريات وفشلت في القيام بواجبها في حماية البلد. وفي حين كان صوته يعلو بغضب واضح، كان زميله يحدثه بهمس وعيونه جاحظة تدور بحذر وتتطلع في الوجوه المحيطة. لا شك أن النكسة، التي كان صاحبنا يصر على تسميتها هزيمة، قد اخترقت جدران الحماس بفجوة هائلة من الهزيمة النفسية والمعنوية، فصيرت الحماس سلوكا يثير الأسئلة. وبدا كما لو أنه يتحرك في جغرافيا لا صلة لها بالوضع الذي خلفته الهزيمة.
 من خارج المكان كانت تصل إلينا أبواق السيارات شاحبة مرهقة باللون الأزرق الذي يغطي كشافات النور، وأصوات الباعة التي كانت ترتد إلى حناجر مخنوقة لتشبه أنين الجريح. وكانت هذه الأصوات تتداخل مع حفيف أشجار الكافور والسنديان التي تظلل طابورنا، والتي بدا لنا أنها الوحيدة التي حافظت على قامتها المنتصبة متسامية فوق الهزيمة وقسوة الحقيقة.
على طاولة المسؤول الذي يستقبل وثائق طلب الالتحاق بالجامعة، تعرفت على صاحب الصوت الذي كان يشاغب زماناً لا يحتمل المشاغبة: إسماعيل الكبسي. تبادلنا أطراف الحديث بسرعة. كان في سنة أولى حقوق -جامعة القاهرة، وكان يرافق زميلا موريتانيا قدم من "طنطا"، وتعرف عليه بالصدفة. وبعد أن عرف حاجته للمساعدة، رحب بذلك وجاء معه إلى طابور التسجيل.
كانت اللحظات القليلة، التي تعارفنا فيها على طاولة تسليم الوثائق، بداية صداقة امتدت لسنوات طويلة، فإسماعيل كان من الناس الذين تعتبر الصداقة بمعاييرهم واحداً من عناوين الحياة التي تنتقل بالعلاقات الإنسانية إلى مدارات تستقر بها خارج المصالح المادية. وكان يرى أنه عندما يبدأ الأصدقاء يستعينون بالصداقة لتجسير مصالح مادية فيما بينهم، فإن عليهم أن يبحثوا عن تسمية أخرى لعلاقاتهم، غير "الصداقة".
وإسماعيل، الذي ملأ زمانه بمواقف جسورة، ربما لم يعد يتذكره إلا بعض الذين عاصروه وعايشوه عن قرب؛ فأكثر من أربعة عقود كفيلة بأن تمحو من الذاكرة خطوط الاتصال مع مثل هذا الماضي الذي عبرت فوقه أحداث كبرى ومرهقة؛ ما لم تكن هذه الخطوط محفورة في ذاكرة الإنسان وموصولة بمواقف خاصة، وتحتل تفاصيلها ركنا هاما فيها.
بعد خروجنا من مبنى الوافدين، أخذنا طريقا باتجاه غير محدد. قدم لي زميله الموريتاني، ولم أكن حتى ذلك التاريخ قد تعرفت على أحد من تلك البلاد التي بدت لي نائية في جوف الصحراء الكبرى من غرب أفريقيا، وأنها لا تعرف من هموم العرب غير ما يصل إليها من "صوت العرب" مشوشا عبر الأثير، حتى تأكد لي عكس ذلك تماماً، بعد أن تزاملنا أثناء الدراسة الجامعية مع كثير من الطلبة الموريتانيين؛ لقد كان فيهم الشعراء والمثقفون والسياسيون، وكانوا أكثر فهما والتصاقا بالقضايا العربية من غيرهم.
 وجدنا أنفسنا نصحح خط السير تلقائيا باتجاه الشارع المفضي إلى "القصر العيني"، هما يبحثان عن الباص الذي يوصلهما إلى حيث يقيمان في "المنيل"، وأنا ابحث عن وسيلة نقل إلى "باب اللوق"، لأستقل المترو إلى حيث أقيم في "حلوان".
قلت لإسماعيل، ونحن في الطريق: "كنت متحمسا في الحديث مع زميلك في الطابور عن الحرب والنكسة، ألا ترى أن كابوس النكسة قد أخمد جذوة الحماس في النفوس؟"، وقبل أن يرد، سارع زميله الموريتاني على تأكيد ملاحظتي، وأخذ يشرح جوهر الخلاف مع إسماعيل. لكن إسماعيل، الذي لم يكن يترك فرصة مثل هذه تمر دون أن يشرح وجهة نظرة بقوة، راح يندد بمنطق المهزومين اليائسين؛ فهناك، من وجهة نظره، مهزومون ولكنهم يحتفظون بمكانتهم وسط هدير الأمواج المتحركة إلى قلب التحديات التي توصلهم بصواب الخيار وقوة الموقف، وهناك مهزومون تتكسر نصالهم، ومعها مواقفهم وخياراتهم، ويتدحرجون إلى قاع التاريخ.
 لم أستطع أن أتبين جوانب الاختلاف في حديثهما، بعد أن تجادلا وتبادلا العديد من الحجج، في حديث تخلى فيه الزميل الموريتاني عن هدوئه. وقرأت حجته كما فهمتها، لا كما شرحها؛ وهي أن الهزيمة العسكرية لا تنتهي عند دشم الطائرات وخنادق الجنود ومحيط بطاريات المدفعية الثقيلة، كما أنها لا تتوقف عند المناصب الرسمية العليا، وخاصة عندما يكون العدو هو "إسرائيل"؛ فجغرافية الهزيمة في مثل هذه الأحوال تتسع بحجم الهدف من وراء العدوان. والحكام يجيئون ويذهبون؛ أما الهزائم فإنها تستقر في قاع الشخصية العامة كجروح لا يمكن القفز فوقها بواسطة عكاز الزمن. الشعوب هي التي تفرخ فيها الهزائم جرثومة الاستبداد، حينما تتوارى نخبها وراء ثقافة تبرر الهزيمة ولا تتجرأ على نقدها. مثل هذه الثقافة تعيد إنتاج الهزيمة في صور عدة من الانكسارات والإحباط، وأشكال من السياسيين والمثقفين الذي يقضون وقتهم في استعارة ثياب النصر لتبرير هزيمة الحكام
تواصل المسير تحت هجير شمس آب، وتواصل معه النقاش، وكان الجوع قد بلغ منا مبلغا يصعب تحمله، فجمعنا ما في جيوبنا من قروش، وعلى الناصية كان هناك محل لبيع الفلافل والطعمية.
عندما يحاول الحماس في مثل هذه الظروف الخروج من داخل الانكسار، فإنه يكون معجونا بالمرارة التي تشعلها في النفس عوامل إضافية؛ أبرزها تلك التي تتحرك في إطار سياسي ومعرفي غير مكتمل النضج، مع ما يتربص بالإنسان من هواجس، وخاصة حينما ينهار الجدار الذي ظل يتكئ عليه ويسترشد به في مسيرته نحو المستقبل.
بالهزيمة انهار جدار ضخم طالما كان عنوانا لأمل التف حوله الملايين من الناس، ثُم تفرقت على غير هدى.
اقتربنا من نهاية شارع "القصر العيني"، باتجاه كوبري الجامعة. وفي محطة الباصات، بجانب المستشفى، تقدم منا شاب يسأل عن باص "الفسطاط"، فتولى إسماعيل الشرح. وفور مغادرة الشباب، أخذ يسرد لنا نكتة عن "الفسطاط"، وهي أن عبد الناصر زار "الفسطاط" بعد النكسة، فوجد امرأة مسنة قاعدة على دكة قريبة من "مجرى العيون"، فسألها: "ما تعرفيش والنبي المكان اللي نصب فيه عمرو بن العاص الفسطاط لما دخل مصر؟"، فقالت العجوز، دون أن تميزه: "روح يا ابني اسأل عبد الناصر، الراجل الطيب، مين اللي نصب مصر وحتعرف الجواب على سؤالك". والنكتة، على ما بها من مغزى عميق؛ إلا أن مكان وزمان إلقائها لم يتركا مجالا للتفاعل معها، وكما هو شأن الأشياء الجميلة التي تتعرض للإهمال، حينما تعرض في غير المكان والزمان اللائقين بها. فالشيء الجميل لا يكون، في كثير من الأحيان، جميلا بذاته؛ ولكن بما يحيطه من إدراك لجماله أو قبحه.
مع العشرة الطويلة، والنقاشات التي لا تنتهي، عرفت إسماعيل جيداً. كان يقفز بحماسة إلى معارك النقاش، مع إصرار على عدم الانتقال بالخلاف إلى خصومة، كما يحدث مع الكثيرين. فهو يعرف كيف ينسحب، ويعرف متى وكيف يتخلى عن صخبه، مع الاحتفاظ بالرأي؛ أي أن انسحابه لا يعني سحب موقفه. وهذا النوع من الانسحابات يحتاج إلى مهارة خاصة؛ فهو يتجه إلى المصالحة مع الأسلوب عن التعبير عن الآراء، لا المصالحة مع الرأي المخالف. ولذلك كان يستغرب خصومة بعض الزملاء له، فهو يجيد النقاش ولكنه لم يكن يجيد الخصومة التي يرى فيها عدواً للنقاش المثمر، لا يلجأ إليها إلا كل من يفقد الحجة ليغطي ضعفه في الإقناع. والخصومة هذه هي الهروب من المعرفة إلى الغموض، ومن المنطق إلى المخاتلة والتربص، ومن قوة العقل إلى قوة الذراع. كم هي المرات التي ضبط فيها مسكونا بكدر عميق، بعد انقشاع الصخب الذي يغرق فيه، وكأنه يوظف ذلك الصخب للهروب من ذلك الكدر الذي كان من الممكن أن يستهلك معنوياته. لقد كانت وقائع الحياة، وكثير منها غير مواتية، تتداخل مع الهم الخاص فتنشئ مزاجا يتحرك في مدارات غير مستقرة. ولا غرابة بعد ذلك أن يكون النقاش الصاخب تعبيرا عن ضجر من حياة لا تمدك بقدر معقول من الاطمئنان.
على نحو مفاجئ، قرر الزميل الموريتاني أن يغير خط سيره، وودعنا، شاكراً إسماعيل على تعاونه، واتفقا على موعد للقاء آخر. بادرني إسماعيل، فوراً، بالحديث عن موضوع آخر يتعلق بمغزى احتلال ثوار الجبهة القومية لمدينة كريتر، يوم 22 يونيه من ذلك العام. وسأل: "هل كان الاحتلال مجرد استعراض قوة، أم أنه ضمن خطة استهدفت إسقاط المناطق وفشلت؟"، قلت له، وأنا أغالب شجنا لمعرفة المزيد عن هذا الشاب، وذلك قبل أن تجمعنا خلية حزبية واحدة لحركة القوميين العرب بعد ذلك بشهرين، كان قد سبقني إليها أثناء تواجدي في حلوان: "لم يكن في نية الثوار التمسك باحتلال المدينة وإسقاطها نهائيا، لأن تضاريس المدينة تسمح بمحاصرتها من قبل قوات الاحتلال، وإن احتلالها كان عملاً سياسياً أكثر منه عسكرياً إستراتيجياً، استهدف بدرجة رئيسية التعبير عن حالة الغضب العارمة التي اجتاحت الشارع بسبب هزيمة يونيه، كما أن الهدف منه تذكير العالم بالثورة التي مضى عليها أكثر من أربع سنوات، كما أن كريتر لها مغزى تاريخي؛ فهي "عدن" بكامل اسمها التاريخي، قبل أن تخرج من درعها الصخري المنيع إلى شواطئ بحر العرب وخليج عدن، وتتجه متحركة نحو الكثبان الرملية شرقاً وشمالاً لتمنع زحفها من خلال مدها بالحياة، وباعتبار أنها كانت حاضرة العرب في هذا الجزء الهام من جزيرة العرب، وظلت محط اهتمام الغزاة، وكانت أول محطة للإنجليز في رحلتهم الاستعمارية الطويلة في هذه البقعة من العالم، وفيها المجلس التشريعي والمجلس البلدي، وهما أهم تعبيرين يومذاك عن شخصية المستعمرة التي كان يقذف بها في وجه الثورة للمراوغة".
ربما كان في جوابي شيء من التبسيط للقيمة الإستراتيجية لهذه العملية، عندما وصفتها بـ"العمل السياسي"، فقد شعرت بأن ذلك لم يرق لصاحبي الذي كان كما يبدو يبحث عن قوة معنوية، كتلك التي يحتاجها الإنسان عندما يتململ داخله الإحباط ويجتاحه الهم لتنتزعه منها، ولو مؤقتاً، حتى وإن كانت من صنع الخيال. فالنفس البشرية لكي تقاوم التدمير، الذي تتعرض بسبب ضغوط الحياة، لا بد أن تستعين بمثل هذا الخيال في قراءة وقائع الحياة، وأن تكون قادرة على إنتاجه، وقادرة على النسيان أيضا وقت الحاجة.
لا أدري إلى أين ذهبت به الظنون، فقد كان ممن ترتسم قناعاتهم على ملامح وجوههم بصفاء ووضوح، لتعبر عن صفاء الروح التي لا تعرف المخاتلة. ولم تكن معرفتنا ببعض قد تجاوزت بعض ساعات غير مستقرة من نهار مزحوم.
 لم تكن الصداقة، في تلك الأيام، تتقرر بشيء من ذلك الذي يصنف اليوم في خانة الانتماء المناطقي، أو مسقط الرأس، أو القبلي، أو الطائفي، أو غيرها من الانتماءات الأخرى العصبوية التي تجرف هذا البلد إلى مستنقعات التفكك، ويجري استدعاؤها من داخل تاريخ مراوغ ومغالط لحقيقة بلد كل مشكلته أنه لم تترك له فرصة أن يتحول إلى وطن. هذا النوع من الصداقات كان يجسده الشعور بالانتماء إلى بلد واحد، محمولاً بحلم تحويله ذات يوم إلى وطن. وكم هي النقاشات التي جرت بعد ذلك حول هذه القضية التي ظلت تطرح أسئلة كثيرة بين الطلبة، بمختلف نحلهم وتوجهاتهم السياسية وخياراتهم التي كانت تتنوع في الخارج وتضيق في الداخل.
وفي علاقة الصداقة، التي جمعتنا طويلاً، لم يكن أي منا في حاجة إلى التنقيب عن أسبابها، أو عن فرص استمرارها خارج الظرف الذي أنتج الفرصة، وما تلاها بعد ذلك من عوامل ظلت تتحرك داخل الحلم المشترك في اتفاق في العام واختلاف في الجزئيات في بعض الأحيان، فلم أعرف أنه من "خولان" إلا في فترة لاحقة، وبعد سنوات من العشرة، عندما كان عليه أن يزور أمه التي كانت مريضة، ولم يكن قد تبقى له من أهله سواها، وكان يحبها لدرجة أننا كنا نخشى عليه عواقب الصدمة من أي مكروه يصيبها. كان حنقه من الحياة يزداد حدة، وينقلب إلى سخرية عندما يصل إلى ذروته، ويتذكر كيف أنها أرسلت له، في بداية أيامه في القاهرة، سبعة ريالات (ماريا تريزا)، ظل محتفظا بها حتى اقتضى الأمر مساعدة صديق لنا، مر بمحنة شديدة، فجاء بريالاته السبعة ورماها على الطاولة، وهو يقول: "هذه مساهمتي". يومها نظرنا إلى الريالات باستغراب، وصاح بعضنا: "أكيد إسماعيل وقع على كنز!". تركنا في حيرتنا، ولم يفصح عن السر إلا صديقه الذي حمل له الريالات من أمه قبل سنوات.
كان عليه أن يسافر ليزور أمه، ولم يكن أمامنا من بد سوى الاستعانة بصديقنا المرحوم أحمد الكازمي، الذي طلبنا منه أن يتصل بالرفيق "مقبل" في عدن ليدبر له التذكرة. وفعلا لم تمر سوى أيام قليلة إلا وكنا نودعه في مطار القاهرة، وكأننا نودعه الوداع الأخير. وفعلا وصل إلى عدن ومنها تسلل إلى "خولان"، حيث أمضى أياما في زيارة أمه، وقرر العودة إلى مصر لمواصلة دراسته الجامعية، فقد كان في السنة النهائية حقوق جامعة القاهرة. لكن الوشاية كانت قد سبقته فمنع من دخول القاهرة، وأعيد على نفس الطائرة التي وصل عليها إلى مطار القاهرة من عدن.
تجسدت في إسماعيل، من خلال مواقف كثيرة، صفات الشهامة والصدق والوفاء، في صور لا تتكرر إلا فيمن هم كأمثاله من الشباب يومذاك، الذين يحملون أحلامهم على مواقف لا تدين لأحد ولا تسعى إلى إدانة أحد. يأخذ مواقف من الأحداث وفق قراءته الخاصة، وكذا النقاشات التي يجريها مع الآخرين دوت تهور أو غلو. اجتماعي إلى الحد الذي لا يتردد معه أن يقول نكتة في ظرف لا يسمح بالتنكيت، ففلسفته أن العلاقات بين الناس محض صدفة يكون فيها الاختيار عملاً لاحقاً. والاختيار هو العمل الواعي الذي يحدد شكل وطابع هذه العلاقة فيما بعد.. وإلا لماذا يتوجه إليك شخص ما طلبا للعون دون بقية خلق الله؛ إلا أن يكون قد أنس فيك شيئا من المودة جعلته يتوجه إليك. وهو جاد إلى الدرجة التي يتملكه فيها الغضب من نفسه، حينما يتبين له وجاهة الرأي المخالف لرأيه.
...
كان إسماعيل نسيج ظروف صعبة ومعقدة. وهو لا يتميز بشيء خاص، عندما ينصرف المعنى بالظروف الصعبة إلى تلك التي عاشها أترابه، من الفقراء القادمين إلى حواضر اليمن من ريفه وأطرافه، حيث الإخصاب المبكر للمسؤولية عند المرء ينمو في مشاتل الفاقة والجوع والضياع، وحيث تكبر المسؤولية قبل العمر وبمعدل أسرع من نمو الجسم؛ ولكن عندما ينصرف المعنى إلى شيء إضافي كذاك الذي يجعل مواجهة هذه الظروف قضية يومية لطفل يشق حياته في زحام المدينة نحو مدرسة الأيتام ومنها إلى الحياة السياسية، المنبر الذي يطل منه على أفق أوسع مساحة من القبو الذي كان يعيش فيه في إحدى حارات صنعاء القديمة، مع ثلاثة من زملائه الذين تركوا معه دار الأيتام. فإنه وأمثاله يجعلون للصعوبة معنى آخر ولونا يتماهى مع لون الحلم الذي يطرق أبواب الطفولة المبكرة عندهم. ففي مواجهة الصعوبات، يتحرك هؤلاء في دائرة تتجاوز حدود المعاناة اليومية المكرسة لتوفير لقمة اليوم، ومن ثم الاستسلام آخر النهار إلى مأوى بائس رطب تحت الأرض، يتصالح فيه الإنسان مع البؤس، ويتصالح فيه الألم مع أسبابه ويتصالح في المظلوم مع ظلمه في تلك الصورة التي تجسد خمول الطموح وانتكاسة الحلم، وحيث تنقب الجرذان عن طعامها من على أقدامهم التي ملأتها أوحال الطرقات. الدائرة التي يتحرك فيها أمثال هؤلاء لا تبقي المواجهة داخل القبو؛ ولكنها تغطي مساحة أوسع من الوطن، طالما أن الظرف الصعب عندهم لا يكبر داخل حاجتهم اليومية إلا بمقدار ما تلتحم فيه هذه الحاجة مع الإحساس بمعاناة هذا "الوطن" بأكمله.
في "المترو"، في طريقي إلى "حلوان"، تذكرت النكتة التي أطلقها إسماعيل، ونحن في محطة الباصات، والتي كانت من ذلك النوع من النكات السياسية التي يتوارى مضمونها خلف جدران سميكة من الرمزية قبل أن تنفجر الحياة، بعد ذلك، بنكات مباشرة وعلنية، كتعبير عما فجرته الهزيمة في النفوس من إحباطات وردود أفعال وتشفٍّ وسخرية. وكانت النكتة لا تخرج عن أي من هذين النسقين: الإحباط، والحنق الممتلئ بمقاومة الأسباب التي أدت إلى الهزيمة أو التشفي والسخرية.
تراءت لي "حلوان" مدينة غارقة في غمام هائل من هباب دخان مصانع الحديد والصلب في طرفها الجنوبي، وغبار محاجر الإسمنت في طرفها الشمالي. كان مزيج الدخان والغبار يلون سماء المدينة الهادئة بلون كئيب، ولكنه يعلن، في نفس الوقت، استمرار الحياة التي لم تستطع الحرب أن تخمد دوران عجلات الإنتاج فيها أو تغتال عزيمة المنتجين.
غبر أن سكون المدينة بدا موحشاً، وكان المترو يتدحرج نحوها ويتخطى المحطات التي يعتمر بها الطريق دون توقف. ففي مثل هذا الوقت من النهار، تكون المحطات خالية إلا من بعض عمال التراحيل الذين يتجمعون في زواياها مستظلين بالأشجار، بانتظار الشاحنات التي تقلهم إلى محاجر الإسمنت وغيرها من مواقع العمل.
الحروب تلون الحياة بلونها؛ لكن الإنسان في معركة البقاء يشتق لنفسه لونا مميزا، يحاول أن يوصل به ما انقطع من حلقات حياته بسبب الحرب. ففي الحروب هناك من يثري، وهناك من يفقد كل شيء ويفقر، وهناك من يفقد عمله ومصدر رزقه، وهناك من يفقد عزيزاً، وهناك من يفقد أخلاقه، وهناك من يجد فرصاً للترقي... وهكذا؛ فوراء لون الحرب الفاقع، الذي تتدثر به الحياة، تتخفى ألوان فرعية بعدد سكان البلاد التي تعيش الحرب. ومن خلال هذه الألوان المتباينة، هناك من يرى الهزيمة نصراً، وهناك من يرى النصر هزيمة، وهناك من يرى الاثنين عبثاً، وهناك من يضع نفسه فوق الأحداث أو خارجها، وهناك من يغرق فيها.
لكن الشيء المؤكد هو أن الحرب تضع خطا فاصلاً بين زمنين، لكل منهما سماته وقيمه الخاصة وأخلاقه المعبرة عن الحاجات المتنوعة والمعادلات المتغيرة والمصالح المتناقضة، الصاعدة والمندثرة. والحرب، سواءً انتهت بنصر أو هزيمة، فإنها تنبش أعماق المجتمع وتستنفر فيه القيم المتجذرة في مفاهيم مشوهة لثنائية الغلبة والانكسار، كظاهرة مخصبة للعملية التي تتولى تسريع التحول نحو زمن ما بعد الحرب لإنتاج معادله السياسي والأخلاقي. وتستنفر هذه القيم، عند المنتصر والمهزوم على السواء؛ فالمنتصر يكرسها كقيم يحمي بها نظام حكمه، فلا يرى الحقيقة إلا من خلالها، أما المهزوم فإنه يلوذ بها للاحتماء من قسوة الهزيمة. وفي الحالتين يكون الطرفان ضحية هذه القيم التي تنبثق من قلب الحروب، فلا هي مؤهلة لتمكين المنتصر من قراءة الحقيقة، ولا هي من ناحية أخرى قادرة على توفير شروط الحماية للمهزوم. وتبدو الصورة أكثر وضوحا حينما ينصرف المقصود بالحروب إلى الحروب الداخلية، أو تلك التي تكون فيها المجتمعات منقسمة بين مستبد ومقموع، بحيث تغدو الهزيمة مثلا انتصاراً للمقموع، أيا كان مصدرها.
وكما أن للحرب نتائجها؛ فإن لها منطقها الذي يقتحم الثقافة بمفاهيم مغلوطة عن الحرب القذرة، والحرب النظيفة، والحرب العادلة، والحرب غير العادلة. هذا المنطق هو صناعة الإنسان الذي اجتدل، موظفاً الخير والشر في معارك تبادل الأدوار بينهما عبر التاريخ، ومن مواقع مختلفة. فمنذ الأزل والإنسان يبرر سفكه للدماء، ويتهم الحيوانات بالوحشية؛ بينما الحقيقة تقول إنه لا توجد غير حرب واحدة تكون قذرة في كل الأحوال. كما أنه لا يوجد قتل وحشي وآخر ناعم؛ فيمكن أن يبطش بك ذئب في مواجهة مباشرة، أو يفتك بك إنسان برصاصة غدراً. وما هو الفرق بالنسبة لذلك الغزال، الذي استطاع أن يتخلص من براثن ذئب هم بافتراسه، ويهرب إلى دكانة على الطريق مستجيراً، ليجد فيها جماعة من الناس رأوا فيه صيداً سميناً فذبحوه؟ لا فرق بين سكين البشر ومخالب الذئب. غير أن الحقيقة تقول لو أن الذئب كان شبعانا لما طارد الغزال أو بطش به؛ على عكس الإنسان الذي كلما ازداد شبعا كلما تفتحت شهيته للدم والبطش بغيره. فالشبع عند الحيوان عنوان للمصالحة مع البيئة المحيطة به؛ أما عند الإنسان فإن الشبع هو عنوان القوة التي يفرغها في عداوات وحروب متواصلة مع المحيطين به.
...
بعد أشهر من ذلك اللقاء، وكان الصيف قد بدأ يتأهب للرحيل في دورة الحياة التي لا تتوقف عند الحروب، وأخذ يلملم معه ما تبقى من حرارة بفعل المطاردة الحثيثة لرياح الخريف، التي جاءت ذلك العام مشبعة بالبرودة والأمطار، كنا في ساحة رابطة الطلبة اليمنيين بـ"الجيزة". عشرات الطلاب كانوا يتجمعون، كل ليلة، في ذلك المكان، حيث يمارسون ديمقراطيتهم ويشيدون جمهوريتهم ويتداولون السلطة، كل ذلك على طريقتهم الخاصة.
كان المساء قد بدأ يزحف على المدينة، وعلى ذلك الشارع الهادئ الذي يقع فيه مقر الرابطة الطلابية المحاذي للنيل، فيضفي عليه سكونا مهيباً تتخلله أصوات "المراكبية"، من أصحاب القوارب الخشبية الصغيرة والعبارات، الذين يملؤون مجرى النهر. وفوق النهر، تنعكس أنوار الشارع الخافتة على صفحة مياهه التي ترحل شمالا مخلفة الأنوار في مكانها، تقاوم ذلك الرحيل الذي لا يهدأ عبر الأزمان السحيقة. وبصخب أكبر يغطي على هذه الأصوات، وعلى غيرها من أصوات مخلوقات الله الأخرى، كانت تصل إلى الشارع أصوات الطلبة اليمنيين من داخل أسوار مبنى مقر رابطتهم، يناقشون كل شيء؛ بدءاً بقومية المعركة التي تجسدت كشعار منذ ما بعد النكسة، مروراً بانقلاب خمسة نوفمبر 67 في الشمال، وانتهاءً باستقلال الجنوب في 30 نوفمبر من نفس العام.
كان إسماعيل يتوسط إحدى حلقات النقاش، التي توزعت عشوائيا في الساحة الخارجية للمبنى، ليضم كل منها عدداً من الطلاب الذين راحوا يتناقشون في كل هذه القضايا مجتمعة، يبنون حلمهم من كل طوب الأرض في نقاش لا يهدأ. وعندما يتعبون يحمل كل واحد طوبه ويغادر. تتقاطع أصواتهم وتختلط ببعضها، في صخب لا ينم عن أن الهدف من النقاش هو الإقناع؛ وإنما إعلان موقف.
وعلى طاولته أخذت مكاني. كان النقاش حاداً. أحد الطلاب راح يشرح مفهوم قومية المعركة ومضمونه، كشعار سياسي يهدف إلى تعبئة جهود كل المجتمع بطبقاته، بعد أن أدت الشعارات السابقة إلى إخراج طبقات كاملة من المعركة. فيقاطعه آخر بأن هذا الشعار مضلل، لأنه يدعو إلى التخلي عن مكتسبات الثورة الاجتماعية، وعن مصالح العمال والفلاحين، لصالح الباشوات وبيروقراطية الأجهزة المهزومة. بينما يقف آخر ويأخذ هيئة خطيب ليصيح في الجميع ويخاطبهم بالقول: "جميعكم تحلقون في الهواء، ما فيش لا قومية معركة، ولا مكتسبات اجتماعية، هناك أمة مهزومة، وستظل مهزومة طالما بقيت مجزأة ، حتى جنوب اليمن، الذي تحرر قبل أيام، يعلن دولة مستقلة باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية". فيرد عليه آخر بسخرية: "الظاهر كنت تريد إعلان يكون باسم جمهورية الجنوب العربي.. أو كنت تريدها جمهورية مستقلة مع وقف التنفيذ، حتى يقرر انقلاب 5 نوفمبر مصيرها!!"، فيرد عليه بأن هذا تكريس للانفصال. وجاء الرد عليه، من مائدة أخرى قريبة: "إن الذي يوحد، لا يعرف الانفصال. الجبهة القومية وحدت الجنوب وبرنامجها وحدوي..."، ويواصل نفس الصوت قائلاً: "هل تعرف، إن الذي كرس الانفصال الحقيقي هو انقلاب 5 نوفمبر، الذي سلم ثورة سبتمبر لخصومها، واتجه بها إلى موائد الاستسلام". فصاح آخر بغضب قائلاً: "هذا الكلام لا يأتي إلا من جاهل لا يعرف السياسة.. هل تقدر تقول لي ما الذي كان يمكن عمله بعد انسحاب القوات المصرية من اليمن غير المفاوضات؟!"، فرد عليه: "وهل كانت القوات المصرية، وحكومة السلال، ترفض المفاوضات؟ أم أنه مقدر علينا أن نتفاوض دائماً ونحن في وضع ضعيف؟".
لم يكن هناك من ينظم النقاش أو يعطي الكلام بالدور، فقد كان الصوت الأعلى هو من ينتزع الدور بالكلام. ولذلك فقد تكرر حديث أصحاب الأصوات العالية أكثر من مرة. واكتشفت أن صوت إسماعيل قد ضاع أمام أصوات تطاول هزيم الرعد، وأنه غير قادر على أن يشق طريقه وسط تلك المعمعة. من طاولة ليست بعيدة عن طاولتنا، جاءنا صوت يستنكر تسليم الإنجليز السلطة للجبهة القومية، فيرد عليه آخر بأن الإنجليز لم يسلموا الحكم طواعية وإنما بالقوة، فلو أنه كان أمامهم خيار آخر لكانوا سلموه لورثتهم المعروفين. ويأخذ آخر الحديث في صورة تحليل للأحداث ويقول: "إن المستهدف من كل هذه الأحداث هو عبد الناصر: 5 نوفمبر في الشمال، وهزيمة جبهة التحرير في الجنوب، اللعبة أكبر من أن تفهموها". ثم يتفق معه آخر في جانب، ويختلف في جانب آخر، ويواصل: "الأمور تتجه إلى تسوية ينتهي فيها المد الثوري في المنطقة.. ولا يمكن أن يكون هناك لاعبون إلا وهناك مستغفلون. ظاهرياً، الجميع يشاركون في هذه التسوية؛ ولكن الحقيقة أن هناك كومبارس كثيرين. واللاعب الرئيسي من الجانب العربي، في ذلك الوقت بعد هزيمة مصر، هي السعودية بزعامة الملك فيصل". علق طالب آخر، كان ينصت ويبدو عليه الاستغراق في التفكير، قائلاً: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وجعلناكم أمة وسطاً.. فمن هي الأمة الوسط؟ أهي أمة الإسلام، أم نحن العرب؟ لقد خان أتاتورك أمة الإسلام، وعلى نهجه يسير كثير من القادة العرب الذين قبلوا هذا التقسيم بين العروبة والإسلام، وبين الدين والدولة والسياسة...". قاطعه البعض بهياج شديد، ولم يدعوه يكمل حديثه، فقد تبعثرت على شفتيه كلمات مثل: الهزيمة، العلمانية، الهوية الإسلامية للجمهوريات، وتداخلت هذه الكلمات مع أنصاف جمل من قبل الآخرين لم يكن هدفها سوى الإخراس.
هكذا كان موزاييك النقاش بين الطلبة ينتقل من موضوع إلى آخر، وتتعدد الآراء بتعدد الانتماءات السياسية. كان نقاشهم لا يعكس فقط حالة التخبط التي تعيشها منظماتهم السياسية، في واقع يتحرك على الأرض في مسارات تصنعها حوارات أخرى تتحرك من فوهات البنادق وبريق الذهب ومؤتمرات المصالحة وبروز قوى جديدة من رماد هزيمة 67 يونيه، تضع نفسها في صدارة المواجهة مع "إسرائيل"، بعد أن تراجعت القوى التقدمية بهزيمة مشروعها وزعاماتها؛ غير أن الحقيقة تقول إن هذه القوى الجديدة كانت تحمل هم انتصارها في معركة المشاريع السياسية والاجتماعية مع القوى المهزومة، قد جعلت من تصدرها للموقف مجرد غطاء لمواصلة تصفية المشروع الخصم وقواه، وإخراجه من المعادلة، وهو ما تحقق ولا زال يتحقق حتى اليوم.
كان شعار قومية المعركة، الذي رفع بعد حرب 67 وفي أجواء النكسة، بهدف تجميع عناصر المشروع التي ترنحت تحت وطأة الهزيمة وتفككت في كل اتجاه، وبدلالاته التي تعكس الرغبة في طي الأسباب التي قادت إلى النكسة، قد جرى استغراقه في المجرى العام لمسارات التسوية، التي قادتها من الناحية العملية القوى التي أخذت موقع الصدارة، ومعها دخلت المنطقة كلها في سديم الانتظار لما ستسفر عنه هذه التسوية. وعلى الرغم من أن حرب الاستنزاف ظلت تقدم الدليل على أن المشروع المهزوم لم يكن سهل الابتلاع؛ إلا أن رحيل عبد الناصر وضع خطاً فاصلاً لنهاية مشروع مقاوم، وآخر يلهث وراء التسوية.
أما فوق سماء اليمن، فقد كانت ألوان الطيف تتجمع في صور مختلفة من التعبيرات التي تعكس خصوبة الحلم الذي تصنعه الكلمة من ناحية، وجفاف الأرض التي يدمرها البارود، وصراع المصالح، وبريق الذهب، من ناحية أخرى. تناقض مفزع ومخيف بين ما تهتف به الحناجر وما تصنعه اليد على الأرض.
قال لي إسماعيل، بعد أن غادرنا المكان، إن البعض يجد فرصة للتفتيش عن أسباب النكسة في أهم وأقوى عناصر التجربة الناصرية، بهدف إخراج مصر من المعركة في عدائها للاستعمار والصهيونية، وفي تمسكها بالقومية العربية، وربط مصر بعجلة العروبة في التحولات الاجتماعية، في بناء السد العالي، في دعم ثورة اليمن. لا يقف هؤلاء عند الهزيمة العسكرية لمصر؛ ولكنهم يذهبون إلى النظام السياسي والاجتماعي، ليضعوه في صدارة الأسباب التي قادت إلى الهزيمة.. يحاكمون التجربة الناصرية بمضمونها السياسي المعادي للاستعمار والصهيونية ومضمونها الاجتماعي المعادي للإقطاع والتبعية.
كان إسماعيل مشروعاً ثقافياً وسياسياً، صاحب رؤية لا تملك إلا أن تحترمها. حتى ونحن، بعد ذلك بسنة، وقد انتخبنا معاً لقيادة رابطة الطلبة اليمنيين، ومعنا عدد من الطلبة القياديين، أمثال عبد الملك عبد الواحد، الطبيب حالياً، وحسن مجلي، المحامي وأستاذ القانون المعروف، وصالح الشوكي، والمرحوم علي فضل هرهرة، وآخرين، وشمال اليمن يغلي بأحداث أغسطس 68، ومقتل القائد عبد الرقيب عبد الوهاب...؛ كان إسماعيل في ذروة نشاطه السياسي والطلابي يعبئ ويحاور، حتى اقتنعنا بأن أقل تعبير يمكن أن يمارسه الطلبة، يومذاك، تجاه تلك الأحداث المأساوية، هو احتلال سفارة الشمال وإصدار بيان بشأنها. كانت خطوة جريئة ومعبرة شارك فيها كل الطلبة، بمختلف انتماءاتهم السياسية، انتهت بقطع منحنا، أعضاء الهيئة الإدارية، بقرار من وزير الخارجية آنذاك، يحيى جغمان، الذي وجه لنا كلاماً قاسياً، عندما قابلناه في فندق "شبرد"، أثناء مروره بالقاهرة، ثاني يوم الحادث. لم يحتمل إسماعيل حديث الوزير. وكان لسان حالنا في رفض اتهامات الوزير لنا بالتعامل مع قوى خارجية؛ حيث قال له: "آخر من يتحدث عن التعامل مع قوى خارجية هو نظامكم الذي صادر الثورة وسلمها لأعدائها". يومها عدنا إلى مقر رابطة الطلبة، وقد أصدرت الملحقية الثقافية قرارا بوقف منحنا الدراسية. وفي نفس الوقت كان الطلبة قد اتخذوا قراراً باستقطاع مبالغ من منحهم شهرياً، تساوي إجمالي المنح التي قطعت؛ حيث ظللنا نتسلم شهرياً ما يساوي منحنا التي قطعت لمدة سنة كاملة. عبر إسماعيل، بعد ذلك بأيام، عن هذا الموقف، في محاضرة في كلية الحقوق، كان يحضرها هيكل، والذي أشار إلى ذلك في إحدى مقالاته "بصراحة"، ومنها بدأت الأجواء تتلبد بالغيوم حول إسماعيل وتعرض لمضايقات كثيرة، وتسلم تهديدات وإنذارات لا حصر لها. وفي تلك الفترة سافر مضطراً لزيارة أمه في "خولان"، والتي كانت على فراش الموت، ومنع بعده من دخول مصر لمواصلة دراسته، كما أسلفنا.
في ندوات سياسية عدة، عُقدت في مقر الرابطة الطلابية، دافع عن استقلال الجنوب وتسلم الجبهة القومية الحكم، والتعاطي مع الوحدة بصورة واقعية دون اندفاع، وذلك مراعاة للظروف التي كان يمر بها الشمال، الغرق في حرب الدفاع عن الجمهورية، وجعلها من ثم قضية مستقبل يشترك في تحقيقه كل أبناء اليمن، وفي الوقت الذي تقرره الظروف المناسبة. ولكي تكون تلك الشراكة ممكنة، فإنه لا بد من التخلص من بؤس الموروث الإمامي لمفهوم الوحدة الذي يبقي الوحدة خارج الفعل الواقعي، يلوح بصولجان الأصل والفرع، والقراءات الانتقائية للتاريخ، ليصنع منه ملجأ للمراوغين بالوحدة. فالتاريخ لا يمكن قراءته بصورة صحيحة، في مثل هذه الأحوال، إلا إذا تمكنت وقائعه من الإجابة بوضوح على التحديات المعاصرة. ولكي لا تبحر السفينتان في اتجاهين مختلفين؛ فإن على القوى المؤمنة بالوحدة، على قاعدة الشراكة الوطنية، أن تتحملا مسؤولية صياغة المشروع الذي سيشكل أساسا للسير نحو تحقيق هذا الهدف. ولا بد أن يقوم هذا المشروع على ثلاثة عناصر متكاملة: تحقيق الوحدة سلميا، وباختيارات لا تتوقف عند خيارات النخب؛ وإنما لا بد من إشراك الشعب إشراكاً فعلياً في تقرير هذه القضية المصيرية، تعزيز الاستقلال الوطني للجنوب والعمل على تحقيق مصالحة شاملة لكل أبنائه وقواه السياسية، التي أسهمت في النضال لتحقيق استقلاله، تعيد الروح لثورة أكتوبر، الدفاع عن ثورة سبتمبر وعن النظام الجمهوري، الحفاظ على مضامين الثورتين التي تبقيهما ساحة التقاء لكل الوطنيين اليمنيين، قيام جبهة عريضة تضم كل القوى السياسية المؤمنة بهذه الأهداف وتكون حاملا لمشروع الوحدة

ظل السؤال بشأن كيفية تحويل البلاد إلى وطن مثار نقاشات واسعة، وأسئلة لا تزال حتى اليوم بدون إجابة.
لكن الأمور سارت، بعد ذلك، على الأرض في اتجاهات مغايرة. والنقاشات التي كان يجريها الطلاب كانت نموذجا لحوارات القوى السياسية، التي لطالما عكست ضخامة المشكلة وهزال الحلول، التي تتحرك فوق شراكها الأحلام الصغيرة والكبيرة على السواء.

ظل إسماعيل يحمل، طوال سنوات الدراسة حتى مغادرته القاهرة، وما بعدها في ساحة نضاله الواسعة، تلك الرؤى، فيصطدم بما تفجره الأيام من ألغام في وجه تلك الرؤى والمواقف. ومع كل منعطف يولد في أرض الواقع، كان يزداد قناعة بصحة رأيه وموقفه، حتى طاله هو نفسه أحد تلك الألغام الهمجية لتنتهي حياته في إحدى سنوات السبعينيات المبكرة. غادر الحياة ومعه أحلامه، فقد واصلت الحياة مسارها على ضوء القناديل المخادعة لانتصارات لا يمكن أن توصف إلا بأنها وقحة، والتي طالما زينت بها شوارع خضبتها الدماء لتحجب حقائق المسارات لينتهي هذا البلد إلى ما انتهى إليه: بلد فشل في أن يتحول إلى وطن. ويبقى السؤال الحائر: إلى أين؟!

*نقلا عن : الاشتراكي نت عن صحيفة الشارع 

ليست هناك تعليقات: